الرجال ماثر لا ثرثرة

غضنفر

Member
الرجــــال مآثــــر لا ثرثــــرة

الرجال ماثر لا ثرثرة

"بهؤلاء الضعفاء والفقراء يتغير وجه الكرة الارضية. بهم تحدث ثورة كبرى في العالم. وهذه الثورة تطأطئ الجباه العالية".
أرنست رينان

تزامن، على مسافة هائلة، حدثان، ما بين شبه القارة البرازيلية واطراف الخليج، عند بحر العرب. في البرازيل، يبدأ لويس ايناسيو لولا دا سيلفا بحزم حقائبه، منهيا عهده بكل هدوء، في بلد اعتاد جنرالاته الخروج من الحكم، انتحارا او اغتيالا او طردا.
وفي عمان، يحتفل بمرور اربعين عاما على وصول قابوس بن سعيد الى الحكم. وما بين النظام الجمهوري في بلاد الامازون، ونظام السلطنة على مشارف الهند، مر ما مقياسه دهر من التطور، وزمن كامل من التغير.
لا تقع الحالتان في اطار الادب المقارن، او السياسة المقارنة. لكنهما تلتقيان تحت ظل الصورة الجديدة ل"البطل" في هذا القرن. الرئيس البرازيلي ينهي عهده وقد انتقل 30 مليون مواطن من مدن التنك الى الطبقة الوسطى، والسلطان قابوس يبدأ الاعداد لخلافته، وقد انتقلت عمان من العصر الحجري الى صف الدول الاولى في معدلات النمو والتطور والتحضر العمراني.
عندما وصل قابوس الى الحكم، كانت السلطنة تحترق عند اطرافها في ثورة يسارية يدعمها السوفيات، فيما كان والده السلطان سعيد لا يزال يغلق بوابات العاصمة عند غروب الشمس. عاصمة لا تزال تعيش، العام 1970، على ضوء مصابيح الكاز، بلا مستشفيات، او طرق، او مدارس. اغلق السلطان سعيد دونه نوافذ العالم وكوات الضوء، كما فعل جيرانه الاماميون في اليمن. لا تدخل صحيفة الا الى القصر، ولا تسمع اذاعة الا في السر، ولا يتسرب كتاب إلا مهربا بخوف ورعب.
جعل قابوس كبار ثوار ظفار في طليعة حكومته، حتى اللحظة. واقام مصالحة شاملة في البلاد. وفتح ابواب التنمية، لكنه ابقى عمان خارج الهرج السياسي الذي عم العالم العربي. صدرت الصحف ولكن من دون حض على الخراب. وانشئ تلفزيون ولكن من دون صراع ديوك ونفث سموم وتدمير انفس. وفي منطقة كثيرة الصراعات والمنازعات والتقلبات، اختار قابوس الصوت الخفيض والعمل المذهل.
الذين عاشوا مثلنا في الخليج، عرفوا العمانيين قبل مجيئه، منفيين سياسيين واجتماعيين وعمالا بسطاء. الان كلما وضعت الامم المتحدة جدولا لمقاييس النمو ومعدلات التقدم، يظهر اسم عمان دائما في المراتب الاولى. ذهبت الى هناك اخر مرة قبل نحو عشر سنين بدعوة من عمدة العاصمة. وانا القادم من بلد ترمى فيه محارم الورق والزجاجات الفارغة من نوافذ السيارات، لم ار مثل هذه النظافة الا في سنغافورة ومونترو.
عمان هي كبرى دول الخليج العربي، مساحة وتعدادا وجيشا، وهي اقلها ادعاء وتطفلا وخطبا وصورا. وعلى رغم افتقارها النسبي الى الثروات الطبيعية فقد خلصت دراسة للامم المتحدة قبل اسابيع الى ان نظام العناية الصحي في البلد هو الافضل في العالم. وانا القادم من بلد يحتل المرتبة الاولى في الاعتداءات الوحشية على اجنحة الطوارئ في المستشفيات من اطباء وممرضات ومسعفين.
كان هنري كيسينجر يميز بين البطل والنجم. الاول، هو الذي يحب الناس ويعمل من اجلهم، والثاني مصاب بشبق الاضواء ومريض بهاجس ابتعادها. لذلك يمضي الاول عمره في العمل بصمت، ويمضي الثاني حياته مزعقا في كل الايام، وفي كل الامكنة.
الاول قليل الكلام، الثاني، كما يقول ماريو فارغاس يوسا في "حفلة التيس" يحاول ان يغطي بالصياح ما تفعله "البروستاتا" بالرجولة. مأساة رافاييل تروخيللو، ديكتاتور الدومينيكان، لم تكن في عجزه عن الحكم بل في عجزه عن التحكم بضبط حركة الدورة المائية في جسده. يقول فارغاس يوسا.
ابطال الزمن الحالي، رجال مثل قابوس بن سعيد، او مثل لولا دا سيلفا، عامل مصنع الحديد، اليتيم الصغير، الذي عندما قرر ان يقاتل الفقر، لم يجعلها معركة شخصية ثأرية بل جعلها حربا من اجل فقراء البرازيل. هذا هو نابليون الفقر في الريو: سوف ينتشل من استطاع من رفاق الامس المسحوقين مثل الصراصير في مطابخ الاغنياء.
لم يطل "لولا" الخطب بل اطال العمل والكد وتعمق في محبة الناس. وجعل تكوينه اليساري طريقا الى اغناء الفقراء لا الى افقار الملاكين واذلال البلد. لقد شهد القرن الماضي، الذي دمره مجانين الحربين العالميتين، ولادة صنف جديد من الابطال: سوف يأخذون الرجال الى الحرب على العوز والمرض والجهل والمستنقعات وعبادة الذات. كل منهم له اسلوبه، وان يكن معظمهم جاء من اليسار: لي كوان يو في سنغافورة، ومهاتير محمد في ماليزيا، وليخ فاونسا في بولونيا. والبطل المعاصر لا نحفظ اسمه لانه ليس مكتوبا على ملصق رخيص بل على لوحة الكرامة البشرية. فنحن نعرف اسم ماو لكن احدا لا يعرف اسماء الخلفاء الجدد الذين صنعوا مجد الصين وازدهارها ايضا. وزرعوا في شرايينها الحياة. ونعرف اسم بينوشيه، الذي سرق اعمار التشيليين وسعادتهم وابناءهم، لكننا لا نعرف اسماء الذين جعلوا بلادهم دولة سوية يحبها اهلها ويمشون في شوارعها اصحاء وايضا مرفوعي الرؤوس.
ثمة نجوم كثيرون في هذا العالم. بعضهم يشبه ابطال المسلسلات الفقاعة التي يطلق عليها لقب "المكسيكية" مع انها لم تخرج من هناك. لقد بدأت في هوليوود، تماما مثل افلام العنف وثقافات التوحش و"الواقعيات" التي تلغي في الانسان قواعد الاخلاق ومعالم الروح.
عندما ذهبت الى جاكرتا العام 1994، كانت مجاريها مفتوحة. وفي المساء كنا ندعى الى حفلات يحضرها الجنرال احمد سوهارتو وضباطه ونساؤهم، فيبدون جميعا كأنهم اغنى طبقة من حملة الالماس في العالم. ولا غرابة، فقد انشأ سوهارتو نحو 500 جمعية خيرية يحصد باسمها اموال الناس. لم تعد المجارير مفتوحة على رئات الناس في جاكرتا. ولا نعرف اسم الرئيس لكننا نعرف ان اندونيسيا تحاول اللحاق بسنغافورة وماليزيا. ثمة بطل صامت لا نعرف اسمه، في حين لا يمكن احدا ان ينسى اسم سوكارنو، الذي جلس ذات يوم الى جانب رجال مثل نهرو وتيتو وعبد الناصر وكوامي نكروما، لمجرد انه جاء في زمن استقلالي واحد.
لكن الانجازات الوحيدة التي تركها، لبلد سوف يفقد نصف مليون انسان بعد وفاته، على ايدي سوهارتو وجنرالاته ومستشاريهم في السي اي إي – تلك الانجازات انحصرت غالبا في النساء. ويروي دين راسك في مذكراته انه سأل سوكارنو خلال زيارته الرسمية، ان كان في امكانه ان يقدم اي خدمة خاصة لضيف جون ف. كينيدي. أجل، طبعا، قال سوكارنو، يريد ليلة مع جاكلين كينيدي. يعلق وزير الخارجية بانه طلب "قطع زيارة هذا السافل".
انتهى زمن الحاكم النجم في الجزء المتمدن من العالم. يقول حامل نوبل الجديد ماريو فارغاس يوسا ان اميركا الجنوبية بدأت تشفى من تخلفها عندما تخلت عن فكرة "السوبرمان". ليس "لولا" كاسترو اخر، ينزل من الجبال الى العاصمة ومعه خطب لينين وبنادق الاعدام بالرصاص. بل هو يبدأ رحلة الى الريو في شاحنة مفتوحة، طفلا مع ام معدمة، ويخوض كل هذا النضال الذي جعل البرازيل دولة كبرى، من غير ان يطلق رصاصة واحدة.
كان فارغاس يوسا صديقا لكاسترو في البداية، وللساحر تشي غيفارا، وذات يوم طلب منه صديق ارجنتيني ان يستضيف في شقته الصغيرة في باريس، سيدة في طريقها الى بوينيس ايرس من هافانا، لانها لا تملك ثمن التذكرة وايجار الفندق. وعندما وصلت المرأة اكتشف انها والدة تشي غيفارا. كان غيفارا بطلا لا نجما. وعندما قتل في ادغال بوليفيا هوت مع جثمانه الوسيم شعلة الثورة في القارة الجنوبية، وبقي الذين يربطون احزمتها ويعلقون اوسمتها. لم اكن احسبني احيا الى زمن انقل فيه عن هنري كيسينجر. لكنني لم اعثر على مقارنة اكثر دلالة، بين النجم الذي يهوي والابطال الذين سعداء يخلدون.

سمير عطالله
x.png
 
رد: الرجــــال مآثــــر لا ثرثــــرة

موضوعك جميل ورائع الله يعطيك العافيه
وذكرني بمثل يقول اعمل بصمت ودع عملك يتكلم واعمل بصمت لاترك في غيابي ضجه
 
عودة
أعلى