أصل صلاح القلب .. للأمام ابن القيم الجوزية رحمه الله

همسي

Well-known member
أصل صلاح القلب
للإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله

لا شيء أنفع للقلب من قراءة القران بالتدبر والتفكر؛ فإنه يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه.
فلو علم الناس ما في قراءة القران بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر باية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة، فقراءة اية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القران، وهذه كانت عادة السلف: يردد أحدهم الاية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قام باية يرددها حتى الصباح وهي قوله {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}.
فقراءة القران بالتفكر هي أصل صلاح القلب، ولهذا قال ابن مسعود: لا تهذوا القران هذ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم اخر السورة.
وروى أبو أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة إني اقرأ القران في ثلاث، قال: لأن اقرأ سورة من القران في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن اقرأ القران كما تقرأ.

***

وقد اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة: أيهما أفضل؟

والصواب في المسألة أن يقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددا، فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا، والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة، وفي "صحيح البخاري" عن قتادة قال: سألت أنسا عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "كان يمد مدا".
وقال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القران في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلا ولا بد، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك، ويعيها قلبك.
وقال إبراهيم: قرأ علقمة على ابن مسعود، وكان حسن الصوت، فقال: رتل فداك أبي وأمي، فإنه زين القران.
وقال ابن مسعود: إذا سمعت الله يقول: {يأيها الذين امنوا} فأصغ لها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تصرف عنه.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: دخلت علي امرأة وأنا أقرأ (سورة هود) فقالت: يا عبد الرحمن: هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها.


من كتاب مفتاح دار السعادة 1/187 ، وزاد المعاد 1/338​
 
عودة
أعلى